احمد
الزرقان
السجن للرجال كما يقول المثل الشعبي المعروف، والرجولة معاني
كبيرة من المروءة والشجاعة، ورفض الظلم، وتحدي الباطل، والسعي للحرية والكرامة
والعزة مهما كلف الأمر من ثمن وتضحية.
والدول المستبدة الظالمة الجائرة لا تسجن
إلا الرجال الأحرار، والأشراف الكرام الذين يرفضون الظلم والعيش بخنوع ومذلّة، وقد
مورس هذا الظلم على أشرف الخلق محمد r وصحبه الكرام، وحبسوا في شعب أبي طالب ظلماً
زوراً وعدواناً مدة ثلاث سنوات من قبل جبروت قادة قريش المستبدين الذي تضررت سلطتهم
الفاسدة ومصالحهم المادية الباطلة بسبب الدين الإسلامي الجديد الذي جاء بمبادئ
العدل والحرية والمساواة.
كما سجن النبي الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف عليه
السلام ظلماً وبهتاناً وعدواناً لرفضه الفجور والخنا وتمسكه بالعفة والطهر، وبقي في
السجن عدة سنين في دولة تحكمها مبادئ دونية منحطة هابطة مادية شهوانية رخيصة، ولكن
يوسف عليه السلام حول السجن إلى مدرسة للدعوة والتربية، ومحراباً للعبادة والقرب من
الله وأثر في مجموع المساجين بالإيجاب والصلاح والإصلاح.
وهكذا على مدار التاريخ
أينما وجدت دولة الظلم والاستبداد وتأليه الحاكم الطاغية الذي لا يُسأل عما يفعل،
ولا يخضع لنظام أو قانون، تجد الأحرار والرجال الشرفاء الرافضين لهذا الظلم خلف
القضبان وفي غياهب السجون ظلماً وزوراً، وتلفق لهم التهم الباطلة الجاهزة
والمعلبة.
ولكن المسلم المؤمن الواثق بنصر ربه وبعدل مولاه الكريم هو من يحول
هذه المحن إلى منح، ويزرع من بين دفتي الشر والظلم فسائل الخير والعطاء، ويستثمر كل
طغيان وجور لصالح مشروع الخير والنماء، كما جسد هذه المعاني شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله عندما قال: ماذا يريد أعدائي مني؟! إن سجنوني فسجني خلوة (اي عبادة خالصة
لله)، وإن نفوني فنفيي سياحة، وإن قتلوني فقتلي شهادة، فها هو شيخ الإسلام يحول كل
أدوات القمع ووسائل الباطل الجائر إلى مشاريع خير وعطاء ونماء ضمن مشروع الإسلام
النهضوي البناء ليرد كيد هؤلاء المجرمين بغيظهم خاسرين.
فهذه هي طبيعة الحياة
كلها ابتلاء وامتحان واختبار ((أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا
يُفتنون)) [سورة العنكبوت2]، ((وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين* أم حسبتم
أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين)) [آل
عمران41-42].
ولقد مارس الطغاة المجرمون على الحركة الإسلامية منذ انبلاج فجرها
وانتشارها وعطاءها القتل والسجن والنفي والإرهاب على رجالها وشبابها ونساءها، فلم
يزدهم هذا الظلم والطغيان إلا تمسكاً بدعوتهم وثباتاً على مبادئهم، وتسابقاً
للتضحية بكل ما يملكون حتى عمَّت الدعوة أرجاء الكون وانتشرت في أقطار الأرض أجمع،
وتجذرت في كل قرية ومدينة في العالم كله، ومات الطغاة وذهبوا إلى مزبلة التاريخ بعد
أن سجلوا صفحات سود من الإجرام والعهر والبلطجة والعدوان، مقابل صفحات النور والخير
والسؤدد التي سجلها الدعاة بدمهم وعذاباتهم وتضحياتهم وعطائهم الذي لا
ينقطع.
ولقد سمعت من فضيلة المرشد العام د. محمد بديع فك الله أسره، قال: عندما
أخبرنا أحد الضباط أن ثمة قرار بقتل المساجين الإخوان عندما يخرجون إلى الأشغال
الشاقة بالمقطم بحجة الهروب وقتلهم لهذا السبب، قال: فرفضنا الخروج، بعدها أدخل
الجنود فوهات البنادق من فتحة في بوابة الزنزانة لقتلنا فتسابق الشباب لسد هذه
الفتحة بأجسادهم لحماية إخوانهم وتمترسوا عليها، فقتل ستين أخاً في الزنازين ظلماً
وجوراً وذلك في سجن ليمان طرة، وقتلوا دون ذنب أو جريرة إلا أنهم يقولون ربنا الله
وطريقنا الإصلاح.
صحيح أن السجن لشباب الحركة الإسلامية والناشطين في الحراك
الإصلاحي هو ظلم وعدوان وفيه إيذاء وعنت وحرمان، وظن السجان أن السجن سيخيف الشباب
الفاعل ويوقف حركة الإصلاح وفعالياته، وما علموا أن التحدي يولد التحدي، ولكل فعل
رد معاكس بالاتجاه ومساوٍ له بالقوة، وإن التهم الباطلة السخيفة الكاذبة التي وجهت
لشباب الإصلاح (تقويض نظام الحكم) (والإساءة لدولة صديقة) ما هي إلا ستار لهذا
الإجرام ضد ثلة من خيرة الشباب، وإن هؤلاء الشباب: ثابت، وهشام، وطارق، ومؤيد،
ومعين، وباسم، ومنذر، ورامي، وسمير، وهمام، وأيمن، وضياء، سوف يخرجون من السجن أصلب
عوداً وأقوى مراساً وأعمق ثباتاً على ما يعتقدونه من مطالب الإصلاح، وسيكون لهذه
الكواكب المنيرة في سماء الأردن دور رائد ومستقبل زاهر لنهضة الأردن من مستنقع
الفساد ووهدة الخراب، فيصبحوا شامات متلألئة على جبين الأردن الزاهر.
وأخيراً؛
فلقد مررت بتجربة هؤلاء الشباب وأنا في سنهم وسجنت أربعة شهور على خطبة العيد سنة
1977م عندما زار الرئيس السادات دولة اليهود، وكانت والله تجربة ثرية غنية مليئة
بالدروس لي في مقتبل شبابي، ومفصلاً كبيراً أثرت في نفسي إيجاباً وصقلت شخصيتي
وكسرت حواجز الرهب والخوف، وخلوة مدتني بالإيمان العميق والصبر والثبات والتضحية،
والاستهانة بالدنيا وملذاتها وزخرفها، متعالياً على الباطل وأهله، ولما خرجت من
السجن عوضني الله أضعاف أضعاف ما خسرت مادياً فإن الله لا يضيع أجر المحسنين
الصابرين.
(البوصلة)